ما أن أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما في 27 مايو / أيار عن استراتيجيته
للأمن القومي ، إلا وتساءل كثيرون حول مدى اختلافها عن تلك التي وضعها
سلفه جورج بوش الإبن ، ويبدو أن الإجابة لم تتأخر كثيرا ، حيث أجمعت آراء
المحللين على أنها تضمنت تغييرات لفظية دون تغيير في المحتوى .
صحيح
أن الاستراتيجية التي صدرت بعد مناقشات مكثفة استمرت 16 شهرا منذ تولي
أوباما الحكم قررت التخلي عن مصطلح "الحرب على الإرهاب" والتركيز على ما
يوصف بـ"الإرهاب الداخلي" ، كما نبذت ضمنيا مبدأ الحرب الاستباقية ضد ما
يسمى الإرهاب والذي استندت إليه إدارة الرئيس السابق جورج بوش في شن حربيها
على كل من أفغانستان والعراق ، إلا أنها عمليا أبقت على الحرب قائمة ولكن
بعد التشاور مع الحلفاء ، حيث نصت على أن تنسق واشنطن مع حلفائها إن أرادت
استخدام القوة العسكرية.
وكانت استراتيجية بوش لعام 2002 نصت على
أنه يجب أن تكون واشنطن مستعدة لوقف الدول المارقة وعملائها الإرهابيين قبل
أن تكون قادرة على تهديد أو استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات
المتحدة وحلفائها وأصدقائها ، أما استراتيجية أوباما فقد نصت على أن
الولايات المتحدة "ليست في حالة حرب عالمية على الإرهاب أو على الإسلام ,
بل هي حرب على شبكة محددة هي تنظيم القاعدة والإرهابيين المرتبطين به".
ويبدو
أن الجديد هذه المرة هو أن الأمن الداخلي أصبح جزءا أساسيا من استراتيجية
الأمن القومي الأمريكي وهو ما جعل استراتيجية أوباما تتخلى عن الحرب على ما
يسمى الإرهاب ليتم التركيز على محاربة تنظيم القاعدة والتوجه نحو الداخل
لتتم إضافة مصطلح "الإرهاب الداخلي" لأول مرة ضمن الاستراتيجيات الأمنية
للولايات المتحدة.
وقال جون برينان مستشار أوباما لمكافحة الإرهاب
والأمن الداخلي :" إن الوثيقة تعترف بالتهديد الذي يشكله أفراد تحولوا إلى
التشدد هنا في الداخل".
وأضاف في كلمة أمام مركز واشنطن للدراسات
الاستراتيجية والدولية أن وثيقة الأمن القومي تشدد على التهديدات التي
يشكلها العناصر المتشددون الذي لا يحملون السمات التقليدية للارهابيين مثل
الشاب النيجيري الذي حاول تفجير طائرة ركاب فوق الاراضي الامريكية يوم عيد
الميلاد ورب العائلة الباكستاني الاصل الذي يشتبه بأنه أراد تفجير سيارة
مفخخة في نيويورك في مطلع مايو / أيار .
وتابع " رأينا ارتفاعاً في
عدد الأفراد الذين يتحولون هنا في الولايات المتحدة الى رهائن للنشاطات
المتطرفة أو اهدافها" ، رأينا أفراداً من بينهم مواطنين أمريكيين مسلحين
بجواز السفر الامريكي يسافرون بسهولة إلى ملاجئ آمنة للإرهاب ويعودون إلى
أمريكا وإلى مخططاتهم المميتة التي تعطلها الاستخبارات المنسقة وتطبيق
القانون".
ولفت إلى أن الضغوط "اللا سابق لها" على "القاعدة" منذ
وصول الرئيس باراك أوباما إلى السلطة حدت بشكل كبير من قدرة التنظيم
وعملياته.
واعتبر برينان أن "القاعدة" تعتمد حالياً على "جنود مشاة"
تدريبهم ضعيف قد يتمتعون بالقدرة على التسلل الى الدفاعات الأمريكية
باعتبار أنهم لا يتمتعون ظاهرياً بهيئة إرهابيين.
وأضاف " المرحلة
الراهنة مرحلة جديدة من التهديد الإرهابي، لم يعد يحدها التنسيق والتعقيد
على نموذج اعتداءات 11 سبتمبر 2001، تطوير العدو نفسه من حيث التكتيك
يدفعنا بشكل مستمر إلى تطوير قدراتنا ليس بداعي الخوف وإنما على نحو متزن
يعزز أمننا ويحرم تحركات عدونا".
الإرهاب في الداخل
وفي
ضوء التصريحات السابقة وبالنظر إلى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون لم
يشر في عهده إلى الارهاب في الداخل عندما حدد استراتيجية العام 1998 رغم
الاعتداء الذي وقع في مدينة أوكلاهوما قبل ثلاث سنوات ، فيما مر عليه جورج
بوش الابن مرور الكرام في وثيقته للعام 2006 ، فإن الإرهاب في الداخل هو
الجديد الذي جاءت به استراتيجية أوباما ، خاصة بعد أن تم تسليط الضوء على
تلك المسألة منذ حادثة إطلاق النار في قاعدة "فورت هود" العام الماضي
ومحاولة التفجير في "تايمز سكوير" بنيويورك .
وكان مسلح قتل 13
جندياً وجرح العشرات في قاعدة "فورت هود" العسكرية في تكساس في نوفمبر /
تشرين الثاني 2009 واتهم في الاعتداء الطبيب النفسي الميجور نضال حسن وهو
أمريكي مسلم من أصل فلسطيني ، وفي مطلع مايو / أيار من هذا العام ، أبطلت
الشرطة الأمريكية مفعول قنبلة وضعت في سيارة بساحة "تايمز سكوير" في
نيويورك أحد أكثر الشوارع اكتظاظاً في المدينة واعتقل على خلفية الحادث
باكستاني يحمل الجنسية الأمريكية يدعى فيصل شاهزاد .
وبجانب ما سبق
وفيما اعتبر دليلا إضافيا على عدم وجود تغيير جوهري في استراتيجية أوباما
عن سياسة سلفه بوش ، فقد أشارت الاستراتيجية إلى أن الولايات المتحدة ستسعى
"بوسائل عدة" إلى عزل إيران وكوريا الشمالية إذا استمرتا في تجاهل
الالتزامات الدولية حيال برنامجيهما النوويين .
وأشارت إلى أن
واشنطن تبحث عن التحاور مع إيران "بلا أوهام" ، في إشارة الى ما أسمته تعنت
طهران في مقابل سياسة اليد الممدودة التي طرحها أوباما.
أيضا فإنه
حسبما جاء بالاستراتيجية فإن أمن إسرائيل يعتبر من الاهتمامات الرئيسية
للولايات المتحدة ، كما دعت الاستراتيجية الجديدة إلى تفعيل دور
الدبلوماسية والاقتصاد إلى جانب القوة العسكرية لدعم صورة أمريكا حول
العالم ولذا نصت على توسيع الشراكة الدولية خارج إطار الدول الحليفة
التقليدية لتشمل دول الاقتصادات الصاعدة كالصين والهند كي تتحمل مسئولياتها
العالمية .
ووفقا للاستراتيجية ، فإن الولايات المتحدة ستعمل مع
الصين في القضايا ذات الاهتمام المشترك طالما هي تضمن حماية مصالحها من دون
أن تهمل البنية العسكرية الصينية ، قائلة :" سنراقب تحديث الصين ترسانتها
العسكرية ونستعد بناء على ذلك لضمان عدم تأثر الولايات المتحدة وحلفائها
بذلك سلباً".
وبالنظر إلى أن الاستراتيجية تركز على رباعية الأمن
والاقتصاد والتعاون الدولي وحماية القيم الإنسانية لتحسين صورة أمريكا
خارجيا وهي أهداف لا يمكن حمايتها إلا إذا كانت أمريكا قوية داخليا ، فقد
تطرقت إلى مسألتي الاقتصاد والمناخ التي رأت أن آثارهما يمكن أن تهدد الأمن
القومي الأمريكي وشددت على ضرورة إعطاء أهمية لمسائل تعزيز النمو وإعادة
تنظيم الأوضاع المالية باعتبارها أولوية أمن قومي قصوى.
وبصفة عامة ،
فإن الاستراتيجية لم تأت بجديد إلا فيما يتعلق بالإرهاب في الداخل ، بل
ويبدو أنها تحمل في طياتها خطرا كبيرا على العالمين العربي والإسلامي .
خطة
بترايوس
فمعروف أن وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي تكون
مطلوبة قانونا من كل رئيس أمريكي وتكتسي أهمية خاصة لتأثيرها في الموازنات
والتشريعات والإنفاق والسياسات الدفاعية والأمنية ، فاستراتيجية الرئيس
السابق جورج بوش لعام 2002 على سبيل المثال والتي عكست عقيدة حرب استباقية
وتحدثت عن "وقف دول مارقة" أعقبها بعد عام فقط غزو العراق.
ويبدو أن
الوضع لن يختلف كثيرا في عهد أوباما ، خاصة وأن صحيفة "نيويورك تايمز"
الأمريكية كشفت في 25 مايو وقبل يومين من الإعلان الاستراتيجية السابقة عن
خطة وضعها قائد القيادة الأمريكية الوسطى ديفيد بترايوس وتطالب بتوسيع
النشاط العسكري الأمريكي السري في دول الشرق الأوسط بغية القضاء على
الجماعات المسلحة أو مواجهة التهديدات في إيران والسعودية والصومال وغيرها
من دول المنطقة.
وأضافت الصحيفة نقلا عن وثائق ومسئولين عسكريين
أمريكيين أن الخطة التي وقعها بترايوس في سبتمبر الماضي تسمح بإرسال قوات
أمريكية خاصة إلى دول صديقة وعدوة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقرن
الإفريقي لجمع المعلومات الاستخبارية وبناء علاقات مع القوى المحلية .
وتابعت
أن الأعمال الاستخبارية وفقا لخطة بترايوس قد تفتح الطريق أمام هجمات
عسكرية محتملة ضد إيران على خلفية ملفها النووي ، كما تهدف الخطة إلى بناء
شبكات قادرة على إضعاف وتدمير القاعدة وغيرها من الجماعات المسلحة وتحضير
البيئة لهجمات مستقبلية قد تشنها القوات الأمريكية أو القوات المحلية
الموالية لها .
هذا بالإضافة إلى أن الخطة تسمح بالقيام بأعمال
محددة في إيران على الأرجح لجمع المعلومات حول البرنامج النووي في البلاد
أو تحديد الجماعات المنشقة التي قد تكون مفيدة في أي هجوم عسكري مستقبلي.
أيضا
، فإن الخطة التي وقعت في 30 سبتمبر الماضي هي التي سمحت بحسب الصحيفة
للقوات الأمريكية بأن تنشط في اليمن بعد ثلاثة أشهر من بدء العمل بها، حيث
تعمل تلك القوات على تفكيك تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية.
كما
تهدف الولايات المتحدة من خلال توسيع نشاطاتها العسكرية السرية إلى الحد
من الاعتماد على وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من أجهزة الاستخبارات
للحصول على معلومات في مناطق لا تتواجد فيها القوات الأمريكية.
ويسعى
بترايوس إلى استخدام فرق صغيرة من القوات الأمريكية لملء الثغرات
الاستخبارية حول المنظمات الإرهابية وغيرها من التهديدات في الشرق الأوسط
وما بعده خاصة فيما يتعلق بالجماعات الصاعدة التي تخطط لشن هجمات ضد
الولايات المتحدة.
وكانت إدارة الرئيس السابق جورج بوش وافقت على
بعض الأعمال العسكرية السرية بعيداً عن مناطق الحروب ، غير أن خطة بترايوس
تهدف إلى جعل تلك الجهود أكثر نظامية وبعيدة المدى.
وأعرب بعض
المسئولين الأمريكيين عن قلقهم من أن العمل العسكري السري قد يوتر العلاقات
مع الحكومات الصديقة مثل السعودية واليمن أو يثير غضب الحكومات التي
تعتبرها الولايات المتحدة عدائية مثل إيران وسوريا ، كما أن الكثيرين في
الجيش قلقون من أن القوات الأمريكية قد تتورط في عمليات تتجاوز القتال
التقليدي ما يعرضهم لخطر معاملتهم كجواسيس في حال ألقي القبض عليهم ما
يحرمهم من حق الخضوع إلى اتفاقية جنيف ، بالإضافة إلى أن سقوط مدنيين في
تلك العمليات العسكرية السرية من شأنه أن يضاعف العداء لأمريكا .
ورغم
ما سبق ، فإن أوباما يبدو عازما على تنفيذ خطة بترايوس ، فيما يحاول خداع
العرب والمسلمين والعالم أجمع بأن هناك تغييرا في السياسة الأمريكية عبر
استراتيجيته للأمن القومي .